أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بزيارة صفحة التعليمـــات، بالضغط هنا.كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة القسم الذي ترغب أدناه.
[center] بين اليأس والرجاء ( 1 ) الأستاذ/نعيم**********
مدخل : ( ليس صاحبنا يدري ، ما اذا كان الأستاذ نعيم مدرس الصناعات اليدوية لايزال حيا ، أم توفاه الله ؟ لم يكن الأستاذ نعيم يختلف عن أهل القرية الا في صلاته فحسب ، ان كان على قيد الحياة فليته يقرأ ، وان كانت الثانية ، فليرحمه الله ويطيب ثراه).
الأمل الأول عرفته نبتة بزغت مع مطلع ثورة يوليو 1952، ارتوت بمياه الثورة وطلوع شمس الحرية والعزة والكرامة ، وأينعت وترعرعت مع سحر معان جميلة وأفكار نبيلة ، حلوة المذاق ، عرف العروبة فكرة فاحتوت كيانه واستقرت بين جنباته وعلا نبض الاشتراكية في فؤاده . منح صوت حليم قلبه وهو يشدو أغنياته "( قلنا هنبني .. وآدي احنا بنينا السد العالي ، يا استعمار بنيناه بايدينا السد العالي )، (صورة صورة صورة ، كلنا كده عاوزين صورة ، صورة للشعب الفرحان تحت الراية المنصورة ، يازمان صورنا ، صورنا يازمان) ، (احنا الشعب واخترناك من قلب الشعب )".
أحب ناصر كأبيه .. ولم لا .. وهو الرجل الذي علم الدنيا معنى العزة والكرامة واعاد للمصريين حقوقهم المسلوبة على مدى تاريخهم ، وها هو يبني لهم مستقبلا مشرق ، أرسل اليه خطابا فور استطاع الكتابة في ثاني سنوات دراسته الابتدائية ليقول له ( أحبك يا أبت لأنك علمتني كيف أصبح رجلا عندما أكبر ، يسألني الناس : من تحب أن تكون مثله عندما تكبر ؟ فأجيبهم : أريد أن أكون رجلا كأبي ناصر ... والدي أريد أن ترسل لي صورة لك ) ، وما هي سوى أيام حتى أجابه ناصر بخطاب به ورقة تحمل تلك الكلمات (( الى ابني......... أنا أحبك وأعرف أنك ستصبح رجلا عظيما ، عليك يا بني أن تحب مصر لتصبح مثل أبيك .... والدك جمال عبد الناصر )) والى جوار الورقة صورة لناصر كتب عليها بخط يده وتوقيعه " الى ابني ........ والدك جمال عبد الناصر"
نعمى على كبد الفتى سقطت ،كما سقط الندى َسحَرا على حرّان فجرى ُيرقّص عوده الشعري على صدر المروج ومعصم الغدران .
غدت الدنيا بين يديه ، وصار يلمس بها السماء ، ولكنه قرر أن تكون علاقته بوالده "ناصر " في طي الكتمان ، فقط أطلع شقيقه الأكبر على الرسالة ، وطواها بين جوانحه. كان لصاحبنا أحد أقربائه ممن خضع لتحديد الملكية الزراعية ، وآخر ممن ينتمون لجماعة الأخوان المسلمين ، وكان كلاهما يهاجم ناصر دائما ، وكان صاحبنا لا يحب الأول فيبادله هجوما بهجوم ، ويعايره بانتمائه لمن أفسدوا الحياة بمصر ، ومن منحهم الملوك الفاسدون حقوق الشعب وأراضيه ، بينما كان الثاني قريبا الى قلب الفتى فكان يحرص على أن يحاوره : ولكننا ياعم الآن نعيش الحرية ، نفهم منطق الاشتراكية ، وهي أقرب الأفكار الى الاسلام وقواعد التكافل وتكافؤ الفرص ، هو يقول لنا : ارفع رأسك يا أخي فقد ولى عهد الاستبداد .... فلا يغير القول ما بداخل الرجل من حنق ، ولا يدخل السلام الى قلبه . عاش صاحبنا أحلى سنوات العمر في ظل الأمل في الغد الأفضل ، وهو يرى المصانع تقام كل يوم ، والأراضي تستصلح ، والشركات والصناعات والبنوك والمدارس ، وهاهو العالم كله يشيد بمصر وتجربتها الرائدة التي تحظى باحترام الدنيا ، تنتج مصر من الابرة الى الصاروخ ، مصانعنا الحربية تنتج لنا كل الذي نرجوه ونأمل ، وهاهو التلفاز الساحر يدخل الى حياتنا فينقل لنا كل خيال عشناه مع المذياع من قبل ، وهاهو السد العالي نبنيه ليأتينا بالخير . صارت مدرسته بالقرية وكأنها الجنة ، بها قاعة للموسيقى ، وألات موسيقية كاملة ، بها قاعة للتدبير المنزلي ، يصنعون فيها " المربى والكاستر والكريم كراميل والزبادي "، وقاعة للمشغولات والصناعات اليدوية ، عشق صاحبنا فيها النول ، بل كان يقضي وقت الفسحة بين خيوط النول ويبدع في رسومات السجاد ، وكان بمدرسته "منحل "يتم فيه رعاية النحل ويأكل منه أطيب العسل ، ومكان آخر في أطراف المدرسة تربى فيه الأبقار" الفريزيان " الضخمة ، وحديقة بها كل أنواع شتلات الزهور والصبار . بدأت علاقة صاحبنا الصغير تتوطد مع الأستاذ نعيم وهو مدرس الصناعات اليدوية حيث وجد في صغيرنا ملكة الابداع على النول واهتمام بالغ بصناعة السجاد ، وذات يوم قص صاحبنا على الأستاذ نعيم قصة رسالة ناصر اليه ، وسأله : هل نستطيع أن نصنع سجادة تحمل صورة ناصر؟ ... فأجابه الأستاذ بأن ذلك أمر ممكن ولكنها ستصبح ملكا للمدرسة ، ولن تستطيع الحصول عليها لنفسك . لمح الأستاذ نعيم علي وجهه علامات الحزن فأردف : ولكننا نبيع مشغولاتنا في المعرض في نهاية السنة ، يمكنك شراء السجادة حينئذ ولكن عليك أن تبدأ الادخار من الآن حتى تحقق ذلك الرجاء ، انكب صاحبنا على النول في كل أوقات فراغه أثناء الدراسة وبعدها حتى انتهى من صناعة سجادة تحمل صورة الرجل الذي أحب . وحين انقضي العام الدراسي وجاء وقت المعرض الذي تعرض فيه كل أعمال السنة على الناس لشرائها ، فوجيء صاحبنا أن ثمن السجادة قد بلغ ثلاثة جنيهات ولم يكن صاحبنا قد ادخر من مصروفه غير خمس وأربعين قرشا رغم حرصه على عدم الانفاق طيلة العام ، وقف صاحبنا أمام السجادة والدموع تملأ عينيه ، والأسى والحزن يعتصران فؤاده ، وصعب عليه أن يطلب من والده ذلك المبلغ الضخم لشراء سجادة حجمها كمثل القميص الذي يرتديه . فقد صاحبنا الأمل في الاحتفاظ بالتحفة التي أفنى لأجلها عاما ، والتي عني بها كأول شيء له في الحياة يحرص عليه ويهتم به ، وكم حلم بها معلقة على حائط غرفته فوق المنضدة التي يستذكر عليها دروسه . عاد ليلتها الى منزله باكيا يمشي لمنزله ، بنفس مغالب مر الشقا بحلاوة الوجدان يمشي ، وما هو ان دنا ، حتى رأى في كوخه المحبوب سحب دخان
ما شعر صاحبنا بالحرمان ولا بالفقر قبل هذه الساعة ، وما كان لصاحبنا من مطالب أو رغبات أو أمل في امتلاك شيء من الحياة وهو المؤمن بالاشتراكية ووجوب اقتصار الملكية على المجتمع الذي يمنح أفراده ما يريدون ويحتاجون ، بل لم يكن صاحبنا ليهتم بكثير من الأشياء التي تشغل بال أقرانه واهتماماتهم ، تذكر في تلك الليلة الطويلة أنه لم يجلس الى أبيه يوما ولم يطلب منه حاجة مما يطلب الصغار ، لم يكن لديه لعب ودمى ، بل لم يكن لديه كرة يلعب بها مع أقرانه ، كان لديه ماسورة مياه قديمة وضعها بين حائطين مجاورين لبيته يلعب عليها " العقلة " ، وأخرى أصغر من الأولى وضع في طرفيها " كوزين " ملأهما بخلطة الأسمنت والزلط ، يلعب بها حمل أثقال ، وبعض السكاكين القديمة مما لا حاجة للمنزل اليها يخبئها فوق سطح بيته بوصفها أدوات للحرب والقتال وهو من يعد نفسه لمعركة التحرير لكل بلدان العروبة وأفريقيا القارة المأسورة من الاستعمار الانجليزي والفرنسي ، ما كان أحد يستطيع الصعود الى مخازنه الآمنة سواه ، حيث لم يكن هناك وسيلة للصعود الى سطح البيت غير ماسورة صرف مياه الأمطار التي كان يجيد التسلق عليها في مهارة وخفة القردة . ورغم ذلك كله لم يشعر قبل الساعة بالحرمان ، ولا بنقصان الحاجيات ، اذ لم تكن له حاجة لشيء رامه و افتقده ، بل كان صاحبنا لا يعرف ما اذا كان أبوه موسرا أم كان فقيرا ، كان يلاحظ أن بيته أفضل كثيرا من بيوت القرية ، وأن والده ورجل آخر بالقرية هما من يمتلكان سيارة ، فيحسب أن والده ليس فقيرا ... ولكنه في تلك الليلة أدرك أنه أفقر الناس جميعا . نام صاحبنا ليلتها كمدا وغما ، وصحا مهموما منكدا في صبيحة اليوم التالي ، أخذته قدماه الى سكن أساتذته المجاور للمدرسة عله يستأنس بأستاذ الصناعات ، أو يذهب الى المنحل ليعمل مع النحال في تنظيف الخلايا ووضع الشمع بها . أو يسري عن نفسه الحزينة ببعض ما يشغلها عن التفكير والحزن ، وما أن ذهب الى سكن الأستاذ نعيم مدرس الصناعات حتى وجد السجادة على منضدة بالحجرة ، فبصرها بطرف عينه ولم ينبس لأستاذه ببنت شفة ، بل زاد تجهمه ووجومه ، وأحس أن ذلك الرجل لم يكن يستحق منه ذلك الحب الذي أحبه ، بل ندم كثيرا في تلك اللحظة على كل مودة منه لذلك الرجل الذي سخره طوال سنة كاملة في عمل تلك السجادة ، التي كانت أملا له واقتنصها منه ذلك الوغد بماله الذي يملك ، وسأل نفسه في تلك اللحظة : ما الذي منعني من أن أصارح أبي أو أمي بحقيقة ما عشت لأجله سنة أحلم وآمل؟ ... هل كان واجب أن أحدثهما بشأن تلك السجادة ، وأمر خطاب ناصر؟ .. أم كان يجب علي أن أرسل لناصر كي يبعث لي بثمن تلك السجادة ؟ أليس هو أيضا أبي؟ .... ولكن الوقت قد فات ... صارت السجادة ملك ذلك الوغد الذي سرق مني فكرتي وجهدي . لم يخرج صاحبنا من تساؤلاته وحنقه غير كلمات مدرسه يقول له: خذها لك .. لقد اشتريتها لأجلك .. لأنك أحق بها .