من سير الصالحين في رمضان (1)
كان دأب العلماء إذا دخل شهر رمضان قطع الدروس، والانعزال بأنفسهم وحالهم، والانشغال فيه بالقرآن، قال ابن عبدالحكم: "كان الإمام مالك بن أنس إذا دخل رمضان ترك قراءة الحديث، ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوةِ القرآن من المصحف"، وكان هذا دأب السلف الصالح في الانشغال بالعبادات في رمضان، وتخصيصه بتلاوة القرآن وتدبره؛ قال الله - عز وجل -: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [البقرة: 185].
قال أهل العلم:
إنما خصَّ الله شهر رمضان بفرضِ الصوم لِما حصل للناس فيه من إكمال النعمة عليهم بإنزال القرآن.
يقول العلامة ابن السعدي:
"فحقيقٌ بشهرٍ هذا فضلُه وهذا إحسان الله عليكم فيه، أن يكون مَوسمًا للعبادة، مفروضًا فيه الصيام"؛ "تيسير الكريم الرحمن" (ص71).
وفي هذه السلسلة نقتبس من ذخائر كتب التراث العربي طرفًا من سير عبادات الصالحين والعلماء في رمضان، وانشغالهم بالقرآن، وأخبارهم، وبعض نوادرهم، من باب الاقتداء بهم، والحث على الانشغال بالنفس، وتعهدها بالتهذيب والتأديب؛ فقد قال - تعالى - في عظيم الفائدة بسنة الاقتداء وتتبع سير الصالحين والعلماء: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [الأنعام: 90]، وقال - تعالى -: ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ﴾ [الممتحنة: 4]، وقال - تعالى -: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ [الممتحنة: 6].
وقد راعيت في هذه اللطائف استقصاءها بمصادرها من مظانِّها، وقمتُ بوضع عناوين جانبية لها، ونجمتها في سلسلة؛ كيلا تمل منها القلوب، بل وتستروح لها الأسماع، وحرَصتُ فيها على تتبع الصحيح من تلك الأخبار، والبعد عن سقيمها.
يختم القرآن في رمضان في كل ليلتين:
جاء في ترجمة الأسود بن يزيد:
وهو ابن قيس، الإمام القدوة، أبو عمرو النخعي الكوفي.
عن فضيل بن عياض، عن ميمون، عن منصور، عن إبراهيم، قال: كان الأسود يختم القرآن في رمضان في كل ليلتينِ، وكان ينام بين المغرب والعشاء، وكان يختم القرآن في غير رمضان في كل ست ليالٍ؛ سير أعلام النبلاء (4/ 51).
الخليفة العابد:
رُوي في سيرة الوليد الخليفة أبي العباس الوليد بن عبدالملك بن مروان بن الحكم الأموي، الدمشقي الذي أنشأ جامع بني أمية.
قيل: كان يختم في كل ثلاث، وختم في رمضان سبع عشرة ختمة.
وكان يقول: لولا أن الله ذكر قوم لوط ما شعرت أن أحدًا يفعل ذلك.
قيل: كان قليل العلم، نهمته في البناء.
أنشأ أيضًا مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزخرفه، ورزق في دولته سعادة، ففتح بوابة الأندلس، وبلاد الترك، وكان لحنة، وحرَص على النحو أشهرًا فما نفع، وغزا الروم مرات في دولة أبيه؛ سير أعلام النبلاء (4/ 347).
سويد بن غفلة:
ابن عوسجة بن عامر، الإمام القدوة، أبو أميد الجعفي الكوفي.
قيل: له صحبة، ولم يصحَّ، بل أسلم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسمِع كتابه إليهم، وشهد اليرموك.
وحدَّث عن أبي بكر الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي، وأُبَي بن كعب، وبلال، وأبي ذرٍّ، وابن مسعود، وطائفة.
روى الوليد بن علي عن أبيه، قال: كان سويد بن غفلة يؤمُّنا في شهر رمضان في القيام، وقد أتى عليه عشرون ومائة سنة؛ سير أعلام النبلاء (4/ 72).
الخاتم في رمضان:
عن الشعبي قال: رأيت الحسين يتختم في شهر رمضان.
وقال: رأيت الحسين يخضب بالوسمة، ويتختم في شهر رمضان.
والمروي عنه - رضي الله عنه - في طريقة تختمه أنه كان يتختم باليسار؛ "تاريخ الإسلام" (3 / 12).
كيومِ ولدته أمه:
جاء في ترجمة عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه -:
أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد العلوي، أنبأنا محمد بن أحمد القطيعي، أنبأنا محمد بن عبيدالله المجلد، (ح) وأنبأنا أحمد بن إسحاق الزاهد، أنبأنا أبو نصر عمر بن محمد التيمي، أنبأنا هبة الله بن أحمد الشبلي، قالا: أنبأنا محمد بن محمد الهاشمي، أنبأنا أبو طاهر المخلص، حدثنا عبدالله البغوي، حدثنا أبو نصر التمار، حدثنا القاسم بن فضل الحداني عن النضر بن شيبان قال: قلتُ لأبي سلمة - ابن عبدالرحمن بن عوف -: حدِّثني بشيءٍ سمِعتَه من أبيك يحدِّث به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: حدثني أبي في شهر رمضان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فَرَض الله عليكم شهر رمضان، وسننتُ لكم قيامه، فمن صامه وقامه إيمانًا واحتسابًا، خرج من الذنوب كيوم ولدته أمه))؛ [أخرجه أحمد 1/191، 195، والنسائي 4/158 في الصيام، وابن ماجه (1328) في الإقامة، باب ما جاء في قيام رمضان]؛ سير أعلام النبلاء (1/ 70).